مفـهـوم حقيقة عذاب النــار
أقول: لقد خلق الله الإنسان وجاء به إلى
الحياة الدنيا بمهمة عالية تصدَّى لها دون غيره من المخلوقات عن طوع وبمحض
اختياره.
لقد عرض الله الأمانة على السموات والأرض
والجبال فأبين أن يحملنها وأَشْفَقْنَ منها وتعرَّض لها الإنسان.
إن هذا العرض فيه من الإغراء بقدر ما فيه
من المخاطر، فيه السعادة الأبدية، أو الشقاء الأبدي، فإما أن يصبح حامل الأمانة
خير البرية أو شر البرية.
وبكلمات أخرى إما الجنَّة وما فيها من
نعيم مقيم، أو النار وما فيها من عذاب أليم. لقد تعرَّض الإنس والجن لهذه الأمانة
وتراجعت بقية المخلوقات عنها واكتفين بالقليل بدل الكثير، ورضين بالبقاء بالنعيم
الأزلي الواحد وذلك بالخدمة التي يقدِّمنها لمن يحمل هذه الأمانة. ورأى الإنسان
هذا العرض وما فيه من إغراء فهانت عليه الخسارة، وقَبِلَ عن طوع أن يعبد الله. إنه
كان ظلوماً جهولاً؟!.
الحقيقة أنه ظلوم جهول إذا خسر عقد
الرهان، ولن يكون كذلك إذا ربحه، إن الأمانة ألاَّ تنقطع عن الله وتُبقي نفسك في
صلة معه عن طريق رسولك وأن تملِّكها له في الدنيا عن طوع واختيار، وبذلك تُدين لما
يأمرك الله به أو ينهاك عنه بدون إكراه.
أما باقي المخلوقات فلا تملك الإرادة لعدم
حملها الأمانة، فهي مسيَّرة بغريزتها وغير مؤاخذة على أفعالها في الآخرة فإن شذَّت
وخرجت عن وظيفتها فإنها تنال قصاصها العادل هنا في الدنيا. وعلى سبيل المثال لا
يجوز صيد الحية أو قتلها في وكرها في الجبال أو استخراجها من باطن الأرض وقتلها لأن
لها وظائف عديدة بخدمة الإنسان، منها على سبيل المثال لا الحصر أنها تقضي على فأر
الحقل المهلك للقمح والزرع ومنها: حفرها لأوكارها تسمح بهذا الحفر بتمرير الماء
والهواء لجذور النباتات ولها وظائف مفيدة شتّى، فلا يحقُّ قتلها في أوكارها.
[وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ...] سورة الإسراء (33).
وقتلها بأوكارها عليه قصاص وعقاب كبير عند
الله، في الدنيا بلاءات وأمراض وفي الآخرة سوف تُوقف قاتلها أمام الله تعالى
والرسل والملائكة والناس أجمعين والمكلَّفين وغير المكلَّفين لتسأل هذا الإنسان
الذي عاهد ربَّه على الخروج لهذه الدنيا والاستئناس به تعالى فيأنس به كل مخلوق
"وهذا معنى كلمة الإنسان" هنالك تسأله موبِّخةً بأي ذنب قتلها، وهي إنما
خُلقت لخدمته، أفيليق به، أوَ هل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان؟. هنالك العار والخزي
أمام كافة الخلائق.
كذلك الأسد لا يجوز تتبُّعه في الغابات
المنقطعة وقتله لأنه هو والضبع والذئب وغيرهم لهم وظائف في الطبيعة بخدمة الإنسان
لتؤتي الطبيعة أُكُلها لهذا الإنسان المشرَّف المكلَّف.
أما إن شذَّت الحية وخرجت عن وظيفتها
ودخلت بيت إنسان أو واجهته في الطريق وخرجت عن وظائفها ففي قتلها أجر وثواب، وإن
الله يحبُّ من عبدهِ المؤمن الشجاعة ولوعلى حيَّة. أي: عند خروجها عن
وظيفتها. قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ
عصفوراً عبثاً، عجَّ إلى الله يوم القيامة، يقول: يا ربِّ إنَّ فلاناً قتلني
عبثاً، ولم يقتلني منفعةً» أخرجه
النسائي وابن حبَّان في صحيحه. وفي رواية: «عجَّ عصفورٌ حول العرش وله دويٌّ كدوي
الرعد يقول: يا رب سل هذا الرجل لِمَ قتلني لغير مأكلةٍ».
وكذا الأسد وكذا الضبع الذي ينظِّف وجه
الطبيعة من الجيف المنتنة المليئة بالمكروب إن اعترضت طريق الإنسان فيحقُّ قتلها
ولقاتلها الأجر والثواب وعمله هذا مشكور لا يُعاب، فقتلها قِصاصها، وليس لها قصاص
في الآخرة ولا نار لأنها لم تحمل الأمانة والتكليف.
إن الضابط لهذه الإرادة هو الفكر، فإذا
تعطَّل من إنسان تسقط عنه حرية الاختيار، أما باقي المخلوقات فتنال عقابها في
الدنيا إذا أخطأت ولا فكر لها، أما بالآخرة فبنعيمها سادرة ولا تستوجب النار.
إن العمل الطوعي لا يوازيه أي عمل كان
ومهما كان إذ أنه يعادل أضعاف مضاعفة من العمل القسري أو العمل المأجور. وتحصل
الثقة بنفس المرء من عمله أكثر من أي عمل آخر إن كان عمله خالصاً لوجه الله لا
يريد فيه جزاءاً ولا شكوراً.
فوقْع عمل الإنسان الذي يُقدم على مساعدة
أخيه الإنسان دون مقابل يكون في نفسه أسمى وأعظم بكثير مما لو كانت المساعدة
مشروطة.
إن الحرية لا تُباع بثمن، ونحن نتنازل
عنها طوعاً وبدافع ذاتي لمن وهبنا إيَّاها إذا عرفنا حنانه ورحمته علينا وحبّه لنا
عندما نلزم أنفسنا دون إكراه أن نكون عباداً له، أي: أن نتقيَّد بأوامره ونواهيه
أملاً واحتساباً، وهذا التنازل أو هذه الطاعة الملزمة من ذاتنا تبعث بنا الثقة بأن
الله تعالى راضٍ عنَّا فنُقبل بنفوسنا عليه ونرتشف بقلوبنا من فيض نعيمه ما يعوِّض
علينا أضعاف أضعاف ما ضحَّينا به من أجله فالله يقدِّر ويشكر لنا هذا التنازل،
وهذا الإلزام.
[... فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] سورة البقرة: الآية (158).
فكم تكون ثقة الإنسان بنفسه عظيمة عندما
ينفِّذ ما أمره الله به من الإحسان للخلْق والجهاد في سبيله، وإنفاق ما يحبُّه
ويشتهيه، أو يبتعد عما هو محبَّب للنفس من النظر إلى النساء أو الإقبال على جمع
المال، والتفاخر بما تفتخر به الناس، أو الامتناع عن ملذات الدنيا وبهجتها ولهوها،
فله الجنَّة.
فالأمانة أن نكون أمناء على العهد الذي
عاهدنا الله عليه من قبل أن نأتي إلى الدنيا. إن الأمانة ليست سرّاً مغلقاً لا
يمكن تذكُّرها. إنها عهد قطعناه على أنفسنا بألا ننقطع عنه تعالى إذا جئنا إلى
الدنيا وأن نسير بنوره تعالى عندها ننفِّذ ما أمرنا الله، وقد لا نتذكَّر إذا
شغلتنا الدنيا وشغلتنا أنفسنا بشهواتها الدنيئة.
فالعاقل إذاً من استطاع أن يرى هذا العهد،
فالرسل والأنبياء حافظوا على العهد من حيث يشعرون ولا يعلمون، ولكن مشاعر الصلة
هذه سرعان ما تنكشف لهم حين سعيهم الجاد في البحث عن شيء يحسونه ولا يتبينوه، لذلك
فهم هداة العالمين. [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ...] سورة الأنعام (90).
وبدونهم لا يستطيع الإنسان أن يتوصَّل إلى
تحقيق العهد الذي اقتطعه على نفسه، ذلك لأنه انقطع عن ربِّه وهم لم ينقطعوا، بل
بقوا شاخصين ببصيرتهم إلى جلاله وجماله محفوفين به تعالى حبّاً وهياماً. لذا فإن
الرسول ينصره أهل الحق، ولا يهمهم من أي جنس كان أو في أي مكان خُلق. قال تعالى: [...
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] الأعراف (157).
أما الذين تقوقعوا ضمن حدود معيَّنة ولم
ينظروا إلى الحق إلاَّ من خلال مصالحهم الشخصية أو العصبية أو الدينية العمياء فهم
دعاة حق مزيفين. فالحق يجب أن يناصره الإنسان ولو على نفسه وإنه لا يحد بمكان أو
زمان أو جنس.
ومن الأمانة أيضاً أن نكون أمناء على ما
خوَّله الله لنا به، بألا نظلمهم أو نرهقهم، ولا نكلِّفهم فوق طاقتهم، وألا نتجاوز
الحدود على أي مخلوق كان، حتى الذي أساء إلينا فإننا نسيء إليه بمثل ما أساء
إلينا. وإذا صفحنا عنه عن مقدرة فهو خير، وحتى الحيوانات أو الحشرات المضرّة، فلا
نحاول أن نُسيء إليها إلاَّ بالقدر الذي نتخلَّص فيه من أذاها. فلا ينبغي الاعتداء
عليها وهي في أوكارها إلاَّ إذا خرجت عن وظيفتها، وتجاوزت مكان هذه الوظيفة، لأن
لكل مخلوق وظيفة في هذا الكون، ولم يُخلق عبثاً، وكلها مسخَّرة لنا سواء بطريقة
مباشرة أو غير مباشرة كما سبق وقدَّمنا.
غير أننا لا نستطيع أن نعطي الأمانة حقّها
إلاَّ بمعونة ربّ العالمين لنحصل على نور نمشي به وإلاَّ تعثرنا في الظلام،
وابتعدنا عن الحق، واتَّبعنا أهواءنا ونحن نظن بأننا نحسن صنعاً فإذا لم نطبِّق
الأمانة قولاً وفعلاً فلن تكون لنا وجهة إلى الله، فقد يستطيع الإنسان أن يكذب على
الآخرين ويغشهم ولكنه لا يستطيع أن يكذب على نفسه أو يغشها.
[بَلِ
الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ] سورة
القيامة (14-15). فإذا لم تكن النفس واثقة من عملها فلن تُقبل
على الله، بل تكون في حجاب عنه بهذا العمل السيء!.
[كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ] سورة المطففين: الآية (14).
الإنسان قد يُخفي سيئاته عن جميع الخلْق،
ولكنها لا تخفى على الله، ولا تخفى على الله خافية. فكيف إذاً يستطيع أن يُقابل من
أحسن إليه؟؟.
إن الإنسان مهما كانت شجاعته الأدبية أي:
المعنوية النفسية لا يستطيع مقابلة من أحسن إليه وهو مسيء. ويوم القيامة عندما يرى
إحسان رب العالمين له وفضله عليه وكيف كان يُقابل هذا الإحسان بالإساءة، سينكس
رأسه من الذل والعار.
[وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا
رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا
نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ] سورة
السجدة: الآية (12).
[وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ
مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ] سورة الشورى: الآية (45).
إن الله تعالى هيَّأ لنا الغذاء في بطون
أمهاتنا وهيَّأ لنا ما في بطونهن لبنا سائغاً ووضع الرحمة في قلوبهن للعناية بنا
فيتعبن من أجلنا لنتمتَّع ببهجة الحياة، نمرض فيسهرن على راحتنا ونجوع فيقطعن عن
أفواههن لإطعامنا، فهذه الرحمة التي غمرننا بها ليست رحمتهن الذاتية، بل هي رحمة
من الله أودعها في قلوبهن. ونتعب فيهيء الله لنا ليلاً هادئاً نسكن فيه، فيسلب
إرادتنا ليُريح أجسادنا من تعب النهار، ويُعيدها إلينا لنسعى، ونكسب من فضله،
سخَّر لنا كل ما ذرأ في الأرض من حيوان ونبات ومعادن.
أولا يكفي هذا لأن يكون برهاناً واضحاً
على رحمته بنا، وحبه لنا، وعطفه علينا، وبعد ذلك فكيف نستطيع أن نقابل ربّ
العالمين وبأي وجه إذا كنَّا نقابل هذا الإحسان بالإساءة، وهذا المعروف بالمنكر.
ما هي حجَّتنا إذا ظننا به بأنه ظالم، وغير
عادل وغير رحيم؟. وكيف تكون لنا وجهة عليه إذا أسأنا لخلْقه الذين يحبهم كما يحبنا
والذين سخَّرهم لأجلنا ولخدمتنا.
فكيف يجحد الناس وهذه النعم تغمرهم في كل
حين!. أو كيف يكفرون وهذه الآيات بينات!. وكيف ينسون هذا الفضل إذا أصابهم مكروه!.
وحتى هذا المكروه ـ لو علموا ـ فإنه خير لهم ليوقظهم من غفلتهم، وليردَّهم عن
غيِّهم، وفوق ذلك ما جاء إلاَّ نتيجة ما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير.
فيوم القيامة عندما يرى الإنسان هذه
الخسارة ـ خسارة الجنَّة وما فيها من نعيم بمشاهدة وجه الله تعالى وخسارة المقام
العالي الذي رُشِّح له هذا الإنسان وإذ به يهبط إلى أدنى المخلوقات، إنها لخسارة
عظيمة تفوق الجبال قد ضيَّعها بشيء زهيد من حطام الدنيا وزخارفها بأيام معدودات،
هناك الحسرة والندامة على ما فرَّط فيها، وقدم على الله بثوب وسخ يحمل فيه
الحيَّات والعقارب بدل الهدايا الثمينة من إنقاذ عباده ورحمتهم وإخراجهم من
الظلمات إلى النور ليبيضَّ وجهه ويُقبل عليه تعالى فينال بقربه الهناء والسرور
والجنَّات العُلى، بل إنه ليحمل الصدف دون اللآلئ والعرض بدل الجواهر، أجل هناك
الحسرة والندم وهناك عض البنان، ولات ساعة مندمٍ.. لقد انقضى كل شيء، وظهرت نتائج
الامتحان.
[... سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ
صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ & وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ
الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] سورة إبراهيم (21-22).
أجل فلا يلومن الإنسان إلاَّ نفسه، لقد
قُضي الأمر وانتهى كل شيء، فلا أمل ولا رجاء فما أصعب العيش بعد فقدان الأمل.
لقد خسر الكافرون أهليهم وأصحابهم وكل
أنيس، وهم في شغل شاغل عما حولهم يتوارون عن الناس من لباسهم الملطخ بالرذيلة،
وخسر هؤلاء أنفسهم لأنهم حرموها مما أُخفي لهم من قرة أعين، ومن مقامهم السامي.
[فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] سورة الزمر (15).
فهؤلاء الذين فقدوا كل شيء حتى الأمل، فأي
شيء يُنسيهم حالتهم التي هم فيها غير النار؟. فرحمة منه تعالى وحتى لا يتركهم في
هذا الشقاء وهذا الألم وهذا الخزي يسلِّط عليهم مطلبهم من النار بالقدر الذي
ينسيهم هذا الألم النفسي الشديد، فكل إنسان يكون عذابه بحسب شدة كفره وشدة إنكاره،
ولذا فتكون النار بمقدار ما يسكِّن عليه هذا العذاب.
[يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ،
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ] سورة الذاريات: الآية (13-14).
«إنَّ العارَ ليلزمُ المرء
يوم القيامة حتى يقول: يا رب لإرسالكَ بي إلى النارِ أيسرُ عليَّ مما ألقى، وإنه
ليعلم ما فيها من شدَّة العذابِ» الجامع الصغير /2074/ (ك) عن جابر (ح).
قال تعالى: [أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا
أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] سورة البقرة: الآية (175).
[... وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ] سورة يونس (10).
لأن هذا العلاج ـ أي النار ـ خير ما
يناسبهم في حالهم النفسي المرعب هذا. واستناداً على ما بيَّنه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في حديثه الشريف الآنف الذكر فإن النار تصبح بمثابة مشفى للمجرمين
المتألمين يطلبونها هم ليسكِّنوا آلامهم النفسية المبرحة من غير أن يُكرههم تعالى
عليها: [يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ،
فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ، وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ]
سورة الفجر: الآية (24-26).
[يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي]: لقد خسر هذا المسكين حياته وأضاع عمره الثمين سدى، وانقضت
تلك الفترة التي كان يستطيع أن يكتسب فيها الخيرات فيُقبل بها بوجه أبيض على خالق
الكائنات وينال المكرمات فلا فائدة له من الحسرة وأنه ليندم أشد الندم، ويتقطَّع
قلبه حسرة، إذ يرى أن الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة غير أنه خسرها وما قدَّم
لها شيئاً.
[فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ]: أي: أنه في ذلك اليوم لا يُعذبه أحد ذلك العذاب الذي يقع
عليه، وإنما هو ذاته جرَّ العذاب لنفسه، فحسرته وخجله وأعماله الخبيثة تتراءى له
فتلذعه في قرارة نفسه لذعاً لا يُطيق ولا يستطيع أن يتحمله، ولذلك تراه يفرُّ إلى
النار لينطرح فيها وليكون له من حريقها وعذابها سِتْرٌ عن آلامه النفسية.
أقول: وما مثَل هذا الإنسان
في ذلك اليوم إلاَّ كمثل طفل نهاه والده عن مسِّ شفرة حادّة مرهفة فعتا عن أمر
والده وخالفه فيما نهاه عنه، وجعل يبري بها قلمه ظنّاً أن تلك الشفرة خير من
المبراة التي نصحه والده أن يبري بها، وفيما هو على هذا الحال أخطأت الشفرة القلم
على حين غفلة منه وذهب بإصبعه، فجعل يصيح ويستغيث ويستجير بوالده ليضمِّد له جرحه
ويُسعفه مما حلَّ به.
أفتظن أن ذلك العذاب الذي حلَّ به في تلك
الساعة أنزله به أحد؟.
إنه لم يعذبه أحد ذلك العذاب، إنما هو
وحده الذي جرَّ هذا الألم لنفسه، وما الألم الذي يشعر به ساعة التضميد والإسعاف
إلاَّ مداواة.
أقول: وهذا المثال الذي قدَّمناه إنما
قرَّبنا به وجه الحقيقة من الأذهان، والواقع أبلغ من ذلك بكثير؛ ومن يعص الله
ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً.
وقد أراد تعالى أن يفصِّل لنا في وصف حالة
ذلك التعيس الشقي:
[وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ]: ويكون ما
نفهمه من هذه الآية: أنه في ذلك اليوم لا يَشدُّ الوثاقَ على ذلك المسكين في النار
أحد، بل هو ذاته يُوثق نفسه بنفسه، إذ يصبر على ألم الحرق، ويُرغم نفسه على تحمُّل
العذاب ليخلص مما هو فيه.
هذا وصف العاصي يوم القيامة وهذا وضعه في
النار ولا سبيل للمفرّ من ذلك الحال الجهنمي الذي يُرغمه غداً على الارتماء في نار
التخفيف مما هو فيه إلاَّ التوبة الآن والرجوع للسير بالحق.
فهم يفتتنون بالنار افتتاناً لشدة ما
يقاسوه من آلام نفسية كما يُفتتن المريض بالأدوية المقيتة والمسكِّنات المخدِّرة
والعلاجات الصعبة والعمليات الجراحية لما يأمل فيها من تسكين لآلامه المرضية
الكبرى.
[يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ] سورة الذاريات (13). ويخلدون إليها بذاتهم لأنهم يرونها خير ما
يناسبهم: [... أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ]
سورة الأعراف (36).
فنستعيذ بالله من شرور أنفسنا حتى لا تكون
مصاحبتها لزاماً.
[... وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]
هذا البحث من علوم العلامة الكبير محمد أمين
شيخو