ماإن يجن الليل عليا ويهجم جيش الظلام، وماإن يطلع القمر كأنه الفلك في البحر عائمة، حتى أحن إلى إلى نافذتي، تلك التي أعتبرها بابا إذا فتحته على مصراعيه كشف لي عن هموم الدنيا و مايلاقيه الناس من آهات، وأول شيء كان يقابل مقلتيا هو موقف الحافلات بمقاعده و جدرانه و مالفت انتباهي ، شيء لم أعرفه أأنس هو أم حيوان أم هو صخرة جامدة،راقبته لأيام إلى أن جاء يوم رأيته يتحرك، فدققت النظر فإذا به شيخ بلغ من الكبر عتيا و ملأ الشيب رأسه كليا، كان يغطي جسمه النخيل أسمالا بالية ممزقة، ووجه شاحب أصفر لا يظهر منه إلاالجزء السفلي لشدة طأطأة رأسه.
وفي ليلة ممطرة باردة عزمت على نفسي وذهبت إليه، لكنني توقفت فجأة فقد أحسست بتشنج في أطرافي و خالجني شعور العودة و الاكتفاء بالنظر من النافذة، لكني واصلت السير بخطى متثاقلة يدفعها الفضول من جهة و تدفعها الانسانية من جهة أخرى.
وصلت إلى موقف الحافلات أو بعبارة أخرى مسكن ذلك الشيخ، وقفت مدة من الزمن جامدة لا أتحرك ولم أكن أسمع غير دقات قلبي المتسارعة يخالطها صوت هطول المطر،وفجأة صوت حزين يقطع صمتي،صوت تعلوه الحسرة والألم،أهلا بك ياابنتي اجلسي، وقبل أن أجلس سألني الشبخ ماالذي أتى بك إلى هنا في هذا الوقت و هذا الجو؟ثم استدار نحوي وقال اقتربي لأراك فقد نسيت شكل الوجوه و الأجسام، و ماان اقتربت منه و رأيت وجهه حتى جحظت عيناي من محجرهما من هول ما رأيت،فكأنما هو شبح قطع أوعية تنفسي و جعلني هائمة في دوامة من التساؤلات أولها مابه وكيف حدث له هذا؟ وآخرها ماالذي جاء بي إلى هنا؟
وإذا بصوت الشيخ يقطع التساؤلات و الحيرة بقوله:لابد أنك تتساءلين عن سبب هذا الوجه المشوه، اجلسي ياابنتي وسأروي لك مأساتي علني أرتاح قليلا بفضفضتي لك.
تنهد تنهيدة طويلة تنم عن هم كبير،وقال:واحسرتاه،اليوم تكون قد مرت سنوات على مأساتي، وهاهي ذي السماء تبكي معي من جديدلأنها من الأعلى ترقب مايجري...كنت شابا في العقد الثاني حين تحصلت على وظيفةكان المرتب مقبولا فأخذت بجمع المال إلى إلى أن صار يكفي لشراء منزل و سيارة، وبعد ثلاث سنوات تزوجت من فتاة ذات حسب و نسب و جمال واتفقنا على العيش معاً في السراء و الضراء، وبعد عام من زواجنا رزقنا الله بتوأمين ذكر فأحببتهما ووهبت لهما كل ما أملك من مال وحب وحنان.
لكن فرحتي لم تكتمل فذات يوم و بينما أنا في الحديقة أقلم الأشجار سمعت صراخا شديداً، فأسرعت إلى الداخل فإذا المطبخ يشتعل ناراً ورأيت زوجتي وولدي يتخبطان في ثيابهما الملتهبة، في حين أن ابني الآخر كان قد فارق الحياة فأسرعت إليهما لكن لصعوبة الوصول كان الأوان قد فات لإنقاذ زوجتي لكنه منحني القوة لإنقاذ ابني.
كبر ولدي و رعيته و كنت له الأب و الأم والصديق لكنه سامحه الله كان يستحي من وجهي المشوه أمام أقرانه. فاختفيت عن الأنظار و تركته لحاله بعد أن تأكدت من أنه أصبح رجلا ذو عمل ومنصب و مكانة في المجتمع، اختفيت عن الأنظار و لكن دافع الأبوة ظل يدفعني لأراقبه عن بعد. إلى أن عرفت أنه مسافر إلى بلاد الغرب فقررت أن أواجهه، و عندما رآني أسرع إلي فظننت أنهافرحة اللقاء لكنه و دون استحياء قال لي:أرجوك يا أبي سأعطيك كل ماتطلبه، فقط اذهب واختفي عن الأنظار فأنا غداً سأعقد شراكة مع شركة دولية أجنبية و عمالها هناك فإن رأوني أتكلم معك وأنت على هذه الحال فإنهم سيبطلون العقد، و بينما نحن كذلك جاء رجل قصير شعره متناثر تحركه الرياح.في كل جهة فعرفت أنه صيني الأصل فقال له من هذا المسخ الذي تتحدث معه؟ فقال أرأيت؟ منذ القدم وأصحابي ينادونك بالمسخ أرجوك اذهب و اختفي و لاتعد إني أريد ان أغير القدر لأن الدنيا لم تعطيني غيرك و أنا الآن أريد أن أبتعد عنك لعل القدر يبتسم لي، فهلا نَــهاك نُــهاك عن مضايقتي، واحرجاه منك، فلم أجد غير الذهاب و الهروب. فطفت الشوارع وتجرعت كؤوس الهم و التهميش و جعلت من الخزي و الإحتقار ظلا لي يتبعني أينما ذهبت ، ثم جعلت من هذا الموقف مسكنا لي، عندئذ دقت ساعة الموقف تشير إلى العاشرة فودعته وعدت إلى بيتي و أنا أفكر في ابنه الذي قسا قلبه على والده فصار كالحجارة أو أشد قسوة منها.
وفي الغد و بينما أنا عائدة إلى البيت طرأت لي فكرة و هي أن أذهب إلى ابنه وأتحدث معه، فأخذت العنوان من الشيخ بالتحايل بعد أن رفض إعطائه لي،وذهبت إلى بيت إبنه و ماإن بدأت بالتحدث إليه حتى وجدت أنه كما وصفه والده، فقلت له إن رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد،فكيف تستحي بوالدك، فقال إن كان أبوك يشبه المسخ فإنك ستستحي به لا محالة، فقلت له بغضب، أتعلم لماذا صار وجهه كالمسخ كما تقول؟هل سألته يوما؟ هل اكترثت لحاله يوما؟ فطأطأ رأسه،وقال معك حق أنا آسف، لم أفكر يوما به، لقد كنت أناني سأبحث عنه و أعتذر منه، وسأسأله عن ما حصل لوجهه، و لكن أين سأجده؟ فقلت له اتبعني، ولما وصلنا وجدناه قائما يدعو الله، فنظرت إلى ابنه فإذا الدموع تنهمر من عينيه، فقلت له تقدم وكلمه. وما إن رآنا الأب حتى انتفض من مكانه و قال: أنت؟ ماذا تريد مني؟ ألم تطلب مني الرحيل؟ فقال الإبن بحزن شديد: سامحني يا أبي فقد كنت أنانيا و لم أفكر حتى عن السبب الذي أدى إلى تشوه وجهك. عمت لحظات من الصمت قطعها الأب بقوله: آه يا ولدي لو علمت السبب ما تركتني لحظة واحدة.
حين شب الحريق في منزلنا و حين دخلت وجدت أن النيران قد التهمت والدتك و أخاك، وسمعت بكائك وأنت تصارع الموت والموت يصارعك،فأبصرت فإذا بالخزانة وقد أكلتها النيران من الأسفل و أوشكت أن تهوي عليك، فأسرعت و أبعدتك لكنني لم أسلم منها فقد سقطت على وجهي...... وقد صار كما تراه الآن. عندئذ أذرف الإبن دموعا تحسبها دما لشدة حرارتها، وأسرع إلى أبيه يقبل رأسه و يديه تارة ويركع أمام قديميه تارة أخرى، فرأف الأب لحاله و احتضنه، فقال الإبن: أرجوك سامحني ياأبي فإن الطمع أعماني لكن القلب ما قصد إيذائك، فهلا عدت معي إلى البيت لنعوض السنن التي ضيعتها بتهوري و أنانيتي؟ فابتسم الأب ووقف بجانبه إبنه ثم شكراني على المساعدة وودعاني وذهبا. فأحسست بنور أضاء هذا الشارع الذي لطالما عرف الظلام.